عدد المساهمات : 84 تاريخ التسجيل : 30/01/2010 العمر : 64
موضوع: تربية الأبناء بين الواقع والمأمول الأحد أبريل 18, 2010 8:57 am
الحمد لله القائل: ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا﴾ [الكهف:46]، والصلاة والسلام على نبينا محمد- صلى الله عليه وسلم- صاحب القدوة، وآله وصحبه قائدي الأمة. أما بعد.. فلا شك أنّ مسؤولية الوالدين في تربية أولادهم مسؤولية عظيمة وأمانة جسيمة للغاية، وأي تفريط -لا قدّر الله- فيها ستترتب عليه نتائج سلبية في غاية الصعوبة، وليس هذا تضخيماً للأمور بل هي الحقيقة التي يعرفها كثير من الناس، ممن سبر غور هذا الموضوع، واطلع على نتائجه الايجابية والسلبية. والناظر المتأمل للممارسات التربوية الواقعية للوالدين اتجاه أولادهم، يلاحظ أنّها تدور حول أصناف عدة هي:
أولاً: صنف من الأباء يرون أن تلبية احتياجات الأولاد أيا كانت، هومطلب أساسي في التربية أوهي كل التربية، فعلى سبيل المثال: إذا أرادوا السهر خارج البيت مع رفقة غير معروفة لبى طلبهم وهكذا، فكل مطلب لأولاده محقق على الفور دون ما عناء أوأخذ أوعطاء. ثانياً: صنف آخر من الآباء على العكس تماماً من الصنف الأول، لا يكاد يحقق لأولاده مطلبا البتة، وإن تم تحقيق مطلب معين لهم كان في أضيق الحدود وبأسلوب يشوبه المن والتوبيخ والتقريع. ثالثا: صنف آخر من الآباء، ليس من هذا ولا من ذاك، فتجده يترك التربية لغيره، المهم لديه أن يقدّم لهم جزءا من دخله الشهري، كمصروف للأكل والشرب والملبس دون ضابط او اهتمام أومتابعة. وتجدر الإشارة إلى أنّ هذا لا يعني عدم وجود صنف رابع، على قدر من حسن الرعاية والتربية، وفق ضوابط التربية الإسلامية السليمة، لكن أحببت الإشارة هنا فقط إلى الممارسات التربوية السلبية في تربية الأولاد، للفت الانتباه إليها ومعالجتها. وفي الحقيقة؛ المتأمل للأنواع التربوية السابق ذكرها، يتضح له خللها وقصورها وضعفها لتركيزها على جانب دون آخر، وبالتالي بُعدها عن شمولية التربية الإسلامية الصحيحة، وللأسف ما نشاهده اليوم من سلوكيات سلبية متنوعة لبعض شبابنا هو انعكاس لهذه الأنواع من التربية غير السليمة. والحل في نظري يكمن في استشعار الآباء عظم الأمانة الملقاة على عواتقهم، وأنهم سيُسألون عن تصرفاتهم وسلوكياتهم اتجاه رعيتهم، لذلك يكون من المناسب الإشارة إلى بعض الأساسيات المهمة في تربية الأولاد، ومنها: أولاً: الدعاء المستمر بطلب الإعانة والتوفيق لتربية الأولاد التربية الصالحة، وتحري أوقات الاستجابة في ذلك، والأدعية المأثورة في ذلك كثيرة من القرآن الكريم والسنة المطهرة. ثانياً: الاقتداء برسولنا العظيم صلى الله عليه وسلم في كل سلوكياتنا وتصرفاتنا، فحياته صلى الله عليه وسلم هي خير نبراس لنا، للسير في معترك هذه الحياة وخصوصاً هذه الأيام. ثالثاً: تعاون الوالدين في التربية، وأن يكونا قدوة حسنة لأولادهما في كل تصرفاتهما القولية والفعلية، فلا يصدر منهما توجيهٌ وهُما لا يطبقانه على نفسيهما. رابعاً: تربيتهم على وجوب الطاعة لولاة الأمر، ممتثلين قول الله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم﴾ [النساء:59]. خامسا: تعويدهم على تحمل جزء من مسؤوليات البيت بصفة دائمة. سادسا: الحرص على اختيار الأصدقاء الصالحين، والبعد عن رفاق السوء، ومتابعة ذلك بصفة مستمرة. سابعا: إبعادهم عن النظر والتعلق بالأفلام الساقطة وسماع الأغاني التافهة. ثامناً: محاولة شغل أوقات فراغهم بكل نافع ومفيد من رياضة ورحلات وسماع المحاضرات والدروس والأناشيد الإسلامية وقراءة الكتب النافعة. تاسعاً: أهمية إشاعة الحوار بين أفراد الأسرة وتعويدهم على المناقشة وطرح الأفكار. عاشراً: توجيههم إلى البعد عن التشدد والغلو في الدين، وإرشادهم إلى التمسك بالمفهوم الوسطي للإسلام على ضوء فهم العلماء الراسخين والمعتبرين. الحادي عشر: التحذير من التعلق بثقافات غير المسلمين كتقليد الغرب في أخلاقهم وعاداتهم وسلوكياتهم، مع الحرص على اقتباس ما توصلوا إليه من المخترعات والمكتشفات، التي سبيلها العلم والصبر والجد والاجتهاد لحاجة أمتنا الإسلامية لذلك. الثاني عشر: الحرص التام على متابعة أداء الأبناء للصلاة جماعة في أوقاتها في المسجد، ولأهمية هذه النقطة سنتطرق لها بمزيد من التفصيل فيما يلي:
أثر المسجد في تربية الأطفال وتكوينهم: للمسجد أثر كبير في تربية النشء، خاصة إذا تعودوا منذ صغرهم على ارتياد المساجد بصحبة آبائهم، فالمسجد محضن تربوي ذو أثر عظيم ، فهو على الفطرة، وينمي الموهبة، ويربط النشء بربه من أول ظهور الإدراك وعلاقات التمييز، ويطبع فيه المثل والقيم والصلاح بتأثير من الصالحين والخيرين ورواد المساجد، من خلال المشاهدة والقدوة. كما يقوم المسجد بتدريب الطفل على النظام ويعلمه كيف يتعامل مع الآخرين من خلال المشاركة الاجتماعية والاختلاط بفئات المجتمع، فينشأ على الأخلاق الفاضلة والمبادئ السامية والشجاعة، لأنه يختلط بالكبار ولا يهابهم ويتعلم الاطمئنان النفسي، ويتربى على النظام من خلال الصفوف المتراصة للصلاة، فيكون انطبعاها في نفسه الترتيب والنظام، ويشهد طاعة المأموم لإمامه، ويرى احترام الصغير للكبير، فتكبر هذه المفاهيم وتشبّ معه، وفيه يسمعون الخطب والدروس العلمية فيبدؤون بوعي العقيدة الإسلامية، وفهم هدفهم من الحياة وما أعدهم الله لهم في الدنيا والآخرة، وفيه يتعلمون القرآن ويرتلونه، فيجمعون بين النمو الفكري والحضاري، وفيه يتعلمون الحديث والفقه وكل ما يحتاجونه من نظم الحياة الاجتماعية. ولقد كانت صلة الأطفال الصغار بالمسجد في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين من بعده، صلة قوية وثيقة نماها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من خلال أفعالهم وتوجيهاتهم. وقد يعترض البعض على وجود الأطفال في المساجد بالحديث الذي رواه ابن ماجه عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ صِبْيَانَكُمْ)، قال الشوكاني: "والحديث يدل على أن مثل هذا الفعل معفوعنه، من غير فرق بين الفريضة والنافلة والمنفرد والمأموم والإمام، لما في الصحيح من زيادة «وهو يؤم الناس في المسجد»". ومما يؤكد ذلك الحديث الذي رواه أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ" "كُنَّا نُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعِشَاءَ، فَإِذَا سَجَدَ وَثَبَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ عَلَى ظَهْرِهِ، فَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ أَخَذَهُمَا بِيَدِهِ مِنْ خَلْفِهِ أَخْذًا رَفِيقًا وَيَضَعُهُمَا عَلَى الْأَرْضِ، فَإِذَا عَادَ عَادَا، حَتَّى إِذَا قَضَى صَلَاتَهُ أَقْعَدَهُمَا عَلَى فَخِذَيْهِ". قَالَ: "فَقُمْتُ إِلَيْهِ فَقُلْت:ُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرُدُّهُمَا"، فَبَرَقَتْ بَرْقَةٌ، فَقَالَ لَهُمَا: (الْحَقَا بِأُمِّكُمَا)، قَالَ: "فَمَكَثَ ضَوْءُهَا حَتَّى دَخَلَا". كما أخرج هذا الحديث كل من أبي يعلى وابن خزيمة وحسنه الألباني في الصحيحة. ومن ذلك أيضا ما رواه البخاري عن أَنَس بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِنِّي لَأَدْخُلُ فِي الصَّلَاةِ وَأَنَا أُرِيدُ إِطَالَتَهَا فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلَاتِي مِمَّا أَعْلَمُ مِنْ شِدَّةِ وَجْدِ أُمِّهِ مِنْ بُكَائِهِ). وفي الصلاة تتجسد كثير من مزايا الأخلاق التي تسوّغ الشخصية المسلمة السوية، ومن ذلك قيمة العزة، والتي تجسد أسمى معاني الأخلاق، وكذلك صفة الرحمة، وهي الصفة التي اختارها الله لعباده دون سائر صفاته في فاتحة الكتاب: "الرحمن الرحيم"، فيبتعد النشء عن الرياء والسمعة والكذب وتناقض الفعل والقول. وقد بقي تعلّم القرآن الكريم في الكتاتيب والمساجد والزوايا في بلادنا الحبيبة إلى عهد قريب، خاصة إبّان الحقبة الإستعمارية الغاشمة، هو الوسيلة لتعلم القراءة والكتابة في كثير من البلاد الإسلامية، فكان الأطفال قبل انتشار المدارس الحديثة يتقنون قراءة القرآن، فيتعلمون القراءة من خلال تعرفهم إلى صور الكلمات المكتوبة، مقترنة بألفاظها المنطوقة، وكان الأطفال بعد هذه القراءة الأولى يكتبون القسم الذي قرؤوه على ألواح خشبية، يحاكون رسمه في المصحف، وكلما كتبوا جزءاً يناسب مقدرتهم عادوا فأتقنوا تلاوته ثم ينتقلون إلى غيره، وهكذا حتى يتموا جميع القرآن، ثم يُنتقى منهم المتفوقون ليحفظوا القرآن عن ظهر قلب؛ ومما يذكر أنه لضيق المساجد بالصبيان اضطر الضحاك بن مزاحم - وهومن أئمة القراءة المعروفين- معلمهم ومؤدبهم، أن يطوف عليهم بدابته ليشرف عليهم، وقد بلغ عددهم ثلاثة آلاف صبي، وكان لا يأخذ أجراً على عمله. إن تردد الناشيء على المساجد منذ نعومة أظفاره، يجعله ينمو نمواً لا مشاكل فيه ولا تعقيد أمامه ولا اضطراب في نفسه، ويثبت قلبه على الإيمان؛ لأن مرحلة المراهقة من أخطر المراحل في حياته، وعند بلوغه يكون قد حُصّن فؤاده وثبت يقينه، فلا قلق ولا اختلال ولا أوهام، لأنه في المسجد يجد المناخ الطيب والجو الديني والمجتمع الطاهر، فتتأصل في نفسه أمور العبادة وآداب التعامل وشدة المراقبة لله، فيكون عضواً سليماً في مجتمعه، ويصدق فيه الحديث الشريف الذي رواه البخاري وغيره عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ)، وذكر منهم: (وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ). وفي الختام؛ فإن خير القلوب وأدعاها للخير ما لم يسبق الشر إليه، وأولى ما عني به الناصحون ورغّب في أجره الراغبون إيصال الخير إلى قلوب أولاد المؤمنين لكي يرسخ فيها، وقد حرص الإسلام على رعاية الأطفال رعاية منقطعة النظير، إيماناً بأن الأطفال رجال المستقبل وعُدَّة الغد، فلا يجوز تركهم مشردين في الأزقة محرومين من نعمة المسجد الذي هو بيت الله وعش المؤمن ومدرسته العملية، والطفل إذا شب على شيء شاب عليه، ومن هنا فالواجب أن نستعين بكل وسيلة من شأنها أن تشوق الطفل إلى المسجد وتحببه إليه، ونحذر من كل أسلوب من أساليب التنفير من المسجد، ولا عبرة بالذين يرون إبعاد الأطفال وأبناء المصلين عن المساجد، وخاصة إذا وجد من يهتم بهم وينظم وجودهم ويعلمهم ويربيهم ويرشدهم، وذلك لأن مفسدة انحراف الأطفال بإبعادهم عن المساجد أخطر من مصلحة الحفاظ على أثاث المسجد أو الهدوء فيه، ومعلوم أن الهدف من تربية الأطفال التربية الإسلامية ليس تزويدهم بالمعلومات والآداب الإسلامية فحسب، بل إطلاع الأطفال على المعنى الأعمق للحياة والعالم من حولهم، والأخذ بأيديهم إلى الطريق الذي يؤدي إلى تنمية متكاملة لكافة جوانب الشخصية، ومساعدتهم على التصدي لمشكلات الحياة الشخصية والاجتماعية. والحمد لله رب العالمين.