إن شهر صفر ثاني شهور السنة وكان أهل الجاهلية يتشاءمون به ومن السفر فيه .
قال البيروني في الآثار الباقية : وسمي صفر لوباء كان يعاريهم فيمرضهم وتصفر ألوانهم .
وقال المسعودي في تاريخه : وسمي صفر لأسواق كانت باليمن تسمى الصفرية ، وكانوا يتمارون فيها ، ومن تخلف عنها هلك جوعا .
وفي لسان العرب عن رؤبة أنه قال : سمي صفر لأنهم كانوا يغزون فيه القبائل فيتركون من أغاروا عليه صفرا من المتاع .
وقد روى البخاري عن أبي هريرة يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( لا عدوى ولا طيرة ، ولا هامة ولا صفر وفر من المجذوم فرارك من الأسد )) .
قال ابن رجب الحنبلي : قالت طائفة المراد بصفر شهر ثم اختلفوا في تفسيره على قولين :
أحدها : أن المراد نفي ما كان أهل الجاهلية يفعلونه في النسيء فكانوا يحلون المحرم ويحرمون صفر مكانه وهذا قول مالك .
والثاني : أن المراد أن أهل الجاهلية كانوا يستشيمون بصفر ويقولون : إنه شهر مشؤوم فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك .
أما محمد بن اسماعيل البخاري فقد قال في صحيحه : ( باب لا صفر ، وهو داء يأخذ البطن ) .
من صور هذا التشاؤم
تجنب السفر فيه وترك ابتدار الأعمال فيه خشية ألا تكون مباركة ، واعتقاد أن يوم الأربعاء الأخير من صفر هو أنحس أيام السنة ومن العجب أنهم يستدلون على ذلك بحديث مكذوب باطل وهو ( آخر أربعاء في الشهر يوم نحس مستمر ) .
شاع بين الناس أن يصفو شهر صفر بقولهم ( صفر الخير ) وهذا من باب رد الخطأ بالخطأ والجهل بالجهل إذ الوصف بذلك مشعر بتأصيل عقيدة التشاؤم بهذا الشهر فينبغي تركه .
قال مشعر ابن رجب رحمه الله ( أما تخصيص الشؤم بزمان كشهر صفر أو غيره فغير صحيح ، وإنما الزمان الحين كله خلف الله تعالى ، وفيه تقع أفعال بني آدم ، فكل زمان شغله المؤمن بطاعة الله فهو زمان مبارك عليه ، وكل زمان شغله العبد بمعصية الله فهو مشؤوم عليه .... وفي الجملة فلا شؤم إلا المعاصي والذنوب فإنها تسخط الله عز وجل فإذا سخط على عبده شقى في الدنيا والآخرة ، كما أنه إذا رضى عن عبده سعد في الدنيا والآخرة .
قال بعض الصالحين وقد شكى إليه بلاء وقع في الناس قال : ما أرى ما أنتم فيه إلا بشوم الذنوب والله أعلم وأحكم،،
إن شهر صفر كبقية الشهور، ليس له أي ميزة عن غيره، والأحاديث النبوية الصحيحة التي ذكر فيها شهر صفر كانت لمجرد النهي عن التشاؤم فيه، ومنها
عن أبي هريرة – رضي الله عنه- قال : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( لا عدوى ولاصفر ولا هامة )) ... الحديث. متفق عليه
عن أبي هريرة -رضي الله عنه-عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولاصفر)) متفق عليه .
عن ابن عباس- رضي الله عنهما – قال : ((كانوا يرون أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض ، ويجعلون المحرم صفر ، ويقولون : إذا برأ الدبر ، وعفا الأثر ، وانسخ صفر ، حلَّت العمرة لمن اعتمر . قدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه صبيحة رابعة مهلين بالحج فأمرهم أن يجعلوها عمرة ، فتعاظم ذلك عندهم ، فقالوا:يا رسول الله !أي الحل ؟. قال
( حل كله)) .
قال أبو داود : قُرئ على الحارث بن مسكين وأنا شاهد : أخبركم أشهب ، قال سُئل مالك عن قوله : (( لا صفر)) قال : إن أهل الجاهلية كانوا يُحلُّون صفر ، يُحلونه عاماً ويُحرمونه عاماً ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ((لا صفر )) .
عن ابن مسعود – رضي الله عنه – قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : (( لا يعدي شيء شيئاً ))، فقال أعرابي : يا رسول الله ! البعير أجرب الحشفة ندبنه فيجرب الإبل كلها ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
( فمن أجرب الأول ؟ لا عدوى ولا صفر ، خلق الله كل نفس فكتب حياتها ورزقها ومصائبها )) .
اعلم أيُّها المحبُّ ـ علَّمني الله و إيَّاك ما لا نعلم ـ أنَّ للعلماء ثلاثة أقوال في معنى قوله في الحديث: "و لا صفر" ، أقربها إلى الصواب من قال أنَّ المراد به؛ إبطال التشاؤم بشهر صفر نبذاً لاعتقاد أهل الجاهلية فيه ، و هذا حماية لجناب التوحيد من دنس الشرك ، فالتشاؤم هو من جنس الطيرة المنهي عنها في هذا الحديث و في غيره من الأحاديث الثابتة.
أقوال علماء المسلمين في (التشاؤم بصفر)
الحافظ ابن رجب ـ ت795هـ
1ـ قال الإمام الحافظ ابن رجب الحنبلي ـ رحمه الله ـ في كتابه ’’لطائف المعارف‘‘ (ص74 ط.دار ابن حزم):
(( و أما قوله ـ صلى الله عليه و سلم ـ : "و لا صفر"، فاختلف في تفسيره، فقال كثير من المتقدمين: الصفر داء في البطن يقال إنه دود فيه كبار كالحيات، وكانوا يعتقدون أنه يعدي فنفى ذلك النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ، و ممن قال هذا من العلماء: ابن عيينة و الإمام أحمد و غيرهما. و لكن لو كان كذلك لكان داخلا في قوله :"لا عدوى"، و قد يقال :هو من باب عطف الخاص على العام، و خصه بالذكر لاشتهاره عندهم بالعدوى.
و قالت طائفة: بل المارد بصفر شهر صفر، ثم اختلفوا في تفسيره على قولين:
أحدهما: أنَّ المراد نفي ما كان أهل الجاهلية يفعلونه في النسيء، فكانوا يحلون المحرم و يحرمون صفر مكانه، و هذا قول مالك(2).
و الثاني: أنَّ المراد أنَّ أهل الجاهلية كانوا يستشئمون بصفر و يقولون: إنه شهر مشؤوم، فأبطل النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ ذلك، و هذا حكاه أبو داود عن محمد بن راشد المكحولي عمن سمعه يقول ذلك(3).
و لعل هذا القول أشبه الأقوال، و كثير من الجهال يتشاءم بصفر، و ربما ينهى عن السفر فيه، و التشاؤم بصفر هو من جنس الطيرة المنهي عنها.
وكذلك التشاؤم بالأيام كيوم الأربعاء، و قد روي أنه:"يوم نحس مستمر" في حديث لا يصح، بل في المسند عن جابر ـ رضي الله عنه ـ:"أنَّ النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ دعا على الأحزاب يوم الاثنين و الثلاثاء و الأربعاء، فاستجيب له يوم الأربعاء بين الظهر و العصر"، قال جابر: فما نزل بي أمر مهمٌ غائظ إلاّ توخيت ذلك الوقت فدعوت الله فيه فرأيت الإجابة(4)، أو كما قال.
و كذلك تشاؤم أهل الجاهلية بشوال في النكاح فيه خاصة..))
ثم قال ـ رحمه الله ـ (ص75ـ76):
(( و أمَّا تخصيص الشؤم بزمان دون زمان كشهر صفر أو غيره فغير صحيح، و إنما الزمان كله خلق الله ـ تعالى ـ، و فيه تقع أفعال بني آدم، فكل زمان شغله المؤمن بطاعة الله فهو زمان مبارك عليه، و كل زمان شغله العبد بمعصية الله فهو مشؤوم عليه، فالشؤم في الحقيقة هومعصية الله ـ تعالى ـ كما قال ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ: " إذا كان الشؤم في شيء ففيما بين اللحيين "؛ يعني اللسان ..))، ثم أطال ـ رحمه الله ـ في هذا المعنى و الاستدلال له بما ورد عن السلف الصالح، فانظره فإنه نفيس.
العلاّمة عبد الرحمن آل الشيخ ـ ت1285هـ
2ـ قال العلاّمة الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ ـ رحمه الله ـ في كتابه ’’فتح المجيد‘‘ (ص324):
(( قوله: "و لا صفر" بفتح الفاء، روى أبوعبيدة في غريب الحديث عن رؤبة أنه قال: هي حية تكون في البطن تصيب الماشية و الناس، و هي أعدى من الجرب عند العرب. و على هذا فالمراد بنفيه ما كانوا يعتقدونه من العدوى، و ممن قال بهذا سفيان بن عيينة والإمام أحمد و البخاري و ابن جرير.
و قال آخرون: المراد به شهر صفر، و النفي لما كان أهل الجاهلية يفعلونه في النسيء و كانوا يحلون المحرم و يحرمون صفر مكانه،و هو قول مالك.
و روى أبوداود عن محمد بن راشد عمن سمعه يقول: أن أهل الجاهلية يتشاءمون بصفر، ويقولون إنه شهر مشؤوم، فأبطل النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ ذلك.
قال ابن رجب: و لعل هذا القول أشبه الأقوال، و االتشاؤم بصفر هو من جنس الطيرة المنهي عنها، و كذلك التشاؤم بيوم من الأيام كيوم الأربعاء و تشاؤم أهل الجاهلية بشوال في النكاح فيه خاصة))اهـ.
العلاّمة صديق خان ـ ت1307هـ
3ـ قال العلاّمة صديق حسن خان القنوجي ـ رحمه الله ـ في كتابه ’’الموعظة الحسنة‘‘ (ص141 ط. دار الكتب العلمية):
(( قد وقع نفي صفر،و النهي عن التطير به في احاديث كثيرة بطرق متعددة ثابة، و اختلف أهل العلم في المراد بصفر.
فقيل: هو حية في البطت تعض إذا جاع، و قيل: دود فيه.
و قيل: هو الشهر المعروف، زعموا أنَّ فيه تكثر الدواهي و الفتن، فنفاه الشارع، و أبطله الاسلام.
و قيل المراد به: النسيء، و هو تأخير المحرم الى صفر، و جعل صفر هو الشهر الحرام، و بنحوه قال القاضي عياض، و قيل غير ذلك.
و حاصل الاقوال يرجع إلى ثلاثة: الشهرالمعروف ، أو الدود في البطن، أو النسيء، و لم أقف على حديث في فضل شهر صفر و لا ذمه ))اهـ.
العلاّمة ابن عاشور ـ ت1393هـ
4ـ قال العلاّمة المفسر مفتي الديار التونسية محمد الطاهر بن عاشور ـ رحمه الله ـ في مقال له نشر في ’’المجلة الزيتونية‘‘(5) بعد مقدمة عن اعتقادات أهل الجاهلية و إبطال الإسلام لها:
((و من الضلالات التي اعتقدها العرب اعتقاد أنَّ شهر صفر شهر مشؤوم، وأصل هذا الاعتقاد نشأ من استخراج معنى مما يقارن هذا الشهر من الأحوال في الغالب عندهم و هو ما يكثر فيه من الرزايا بالقتال و القتل، ذلك أنَّ شهر صفر يقع بعد ثلاثة أشهر حرماً نسقاً و هي ذو القعدة و ذو الحجة و المحرم، و كان العرب يتجنَّبون القتال و القتل في الأشهر الحرم؛ لأنها أشهر أمن، قال الله ـ تعالى ـ: " جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس و الشهر الحرام"الآية. فكانوا يقضون الأشهر الحرم على إحن من تطلب الثارات و الغزوات، و تشتت حاجتهم في تلك الأشهر، فإذا جاء صفر بادر كل من في نفسه حنق على عدوه فثاوره، فيكثر القتل و القتال، و لذلك قيل: إنَّه سمي صفراً؛ لأنهَّم كانوا يغزون فيه القبائل فيتركون من لقوه صفراً من المتاع و المال، أي خلواً منهما.
قال الذبياني يحذر قومه من التعرض لبلاد النعمان بن الحارث ملك الشام في شهر صفر:
لقد نهيت بني ذبيان عن أُقر## و عن تربعهم في كل أصفار
و لذلك كان من يريد العمرة منهم لا يعتمر في صفر إذ لا يأمن على نفسه، فكان من قواعدهم في العمرة أن يقولوا: "إذا برأ الدبر و عفا الأثر و انسلخ صفر؛ حلَّت العمرة لمن اعتمر" على أحد تفسيرين في المراد من صفر و هو التأويل الظاهر. و قيل: أرادوا به شهر المحرم، و أنَّه كان في الجاهلية يسمَّى صفر الأول،و أنَّ تسميته محرماً من اصطلاح الإسلام، و قد ذهب إلى هذا بعض أئمة اللغة، و أحسب أنه اشتباه، لأنَّ تغيير الأسماء في الأمور العامة يدخل على الناس تلبيساً لا يقصده الشارع، ألا ترى أنَّ رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ لما خطب حجة الوداع فقال: "أي شهر هذا؟"، قال الراوي: فسكتنا حتى طننا أنَّه سيسميه بغير اسمه، فقال: "أليس ذا الحجة؟"، ثم ذكرفي أثناء الخطبة الأشهر الحرم، فقال: ذو القعدة،و ذو الحجة،و المحرم، و رجب مضر الذي بين جمادى و شعبان. فلو كان اسم المحرم اسماً جديداً؛ لوضحه للحاضرين الواردين من الآفاق القاصية. على أنَّ حادثاً مثل هذا لو حدث، لتناقله الناس، و إنما كانوا يطلقون عليه و صفر لفظ " الصفرين" تغليباً.
فنهى النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ عن التشاؤم بصفر...))
ـ ثم ذكر حديث الباب وقال بعد ذلك ـ :
((و قد اختلف العلماء في المراد من صفر في هذا الحديث، فقيل : أراد الشهر، و هو الصحيح وبه قال مالك و أبو عبيدة معمر بن المثنى، و قيل: أراد مرضاً في البطن سمي الصفر، كانت العرب يعتقدونه معديا، و به قال ابن وهب و مطرف و أبو عبيدالقاسم بن سلام، و فيه بعد؛ لأنَّ قوله:" لا عدوى" يغني عن قوله :"و لا صفر".
و على أنَّه أراد الشهر فقيل: أراد إبطال النسيء، و قيل: أراد إبطال التشاؤم بشهر صفر، و هذا الأخير هو الظاهر عندي.
و وجه الدلالة فيه أنه قد عُلم من استعمال العرب أنه إذا نُفي اسم الجنس و لم يذكر الخبر أن يقدر الخبر بما يدل عليه المقام، فالمعنى هنا: لا صفر مشؤوم، إذ هذا الوصف هو الوصف الذي يختص به صفر من بين الأشهر، و هكذا يقدر لكل منفي في هذا الحديث على اختلاف رواياته بما يناسب معتقد أهل الجاهلية فيه.
و سواء كان هذا هو المراد من هذا الحديث أم غيره؛ فقد اتفق علماء الإسلام على أن اعتقاد نحس هذا الشهر: اعتقاد باطل في نظر الإسلام، و أنه من بقايا الجاهلية التي أنقذ[نا] الله منها بنعمة الإسلام.
قد أبطل الإسلام عوائد الجاهلية فزالت من عقول جمهور المؤمنين، و بقيت بقاياها في عقول الجهلة من الأعراب البعداء عن التوغل في تعاليم الإسلام، فلصقت تلك العقائد بالمسلمين شيئاً فشيئاً مع تخييم الجهل بالدين بينهم، ومنها التشاؤم بشهر صفر، حتى صار كثير من الناس يتجنب السفر في شهر صفر اقتباساً من حذر الجاهلية السفر فيه خوفاً من تعرض الأعداء، و يتجنبون فيه ابتداء الأعمال خشية أن لا تكون مباركة، و قد شاع بين المسلمين أن يصفوا شهر صفر بقولهم: صفر الخير، فلا أدري: هل أرادوا به الرد على من يتشاءم به، أو أرادوا التفاؤل لتلطيف شره كما يقال للملدوغ: سليم؟ و أيًّا ما كان فذلك الوصف مؤذن بتأصل عقيدةالتشاؤم بهذا الشهر عندهم.
و لأهل تونس حظ عظيم من اعتقاد التشاؤم بصفر، لا سيما النساء و ضعاف النفوس، فالنساء يسمينه "ربيب العاشوراء" ليجعلوا له حظا من الحزن فيه و تجنب الأعراس و التنقلات.
و من الناس من يزيد ضغثاً على إبالة فيضم إلى عقيدة الجاهلية عقيدة أجل منها، و هي اعتقاد أنَّ يوم الأربعاء الأخير من صفر هو أنحس أيام العام، ومن العجب أنهم ينسبون ذلك إلى الدين الذي أوصاهم بإبطال عقائد الجاهلية، فتكون هذه النسبة ضلالة مضاعفة، يستندون إلى حديث موضوع يروى عن ابن عباس أنَّ رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ قال:"آخر أربعاء في الشهر يوم نحس مستمر"، و قد نص الأئمة على أنَّ هذا حديث موضوع، فإذا ضُمَّ ذلك إلى التشاؤم بشهر صفر من بين الأشهر؛ أنتجت هذه المقدمات الباطلة نتيجة مثلها، و هي أن آخر أربعاء من شهر صفر أشأم أيام العام، و أهل تونس يسمونها"الأربعاء الكحلاء" أي السوداء، كناية عن نحسها؛ لأنَّ السواد شعار الحزن و المصائب، عكس البياض.
قال أبو الطيب في الشيب:
أبعِد بعُدت بياضاً لا بياض له## لأنت أسود في عيني من الظُلَمِ.
و هو اعتقادٌ باطلٌ إذ ليس في الأيام نحسٌ، قال مالك ـ رحمه الله ـ:" الأيام كلها أيام الله، و إنما يفضل بعض الأيام بعضاً بما جعل الله له من الفضل فيما أخبر بذلك رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ".
و لأجل هذا الاعتقاد الباطل قد اخترع بعض الجهلة المركبين صلاةً تصلى صباح يوم الأربعاء الأخير من صفر، وهي صلاةٌ ذات أربع ركعات متواليات تقرأ في كل ركعة سور من القرآن مكررة متعددة، وتعاد في كل ركعة، و يدعى عقب الصلاة بدعاء معين. و هي بدعة و ضلالة إذ لا تُتلقى الصلوات ذوات الهيئات الخاصة إلاّ من قبل الشرع، و لم يرد في هذه الصلاة من جهة الشرع أثرٌ قويٌّ و لا ضعيف فهي موضوعة. و ليست من قبيل مطلق النوافل؛ لأنها غير جارية على صفات الصلوات النوافل، فليحذر المسلمون من فعلها، و لا سيما من لهم حظ من العلم، و نعوذ بالله من علم لا ينفع وهوى متبع)) اهـ.
العلاّمة ابن عثيمين ـ ت1421هـ
5ـ قال الشيخ الفقيه محمد بن صالح العثيمين ـ رحمه الله ـ في كتابه ’’القول المفيد‘‘ (ج1/ص564) :
(( قوله:"و لا صفر"؛ قيل إنه شهر صفر، كانت العرب يتشاءمون به، و لا سيما في النكاح(6).
و قيل : إنه داء في البطن يصيب الإبل، و ينتقل من بعير إلى آخر ؛ و على هذا فيكون عطفه من باب عطف الخاص على العام.
وقيل: إنه نهي عن النسيئة، و كانوا في الجاهلية ينسئون، فإذا أرادوا القتال في شهر المحرم استحلوه، و أخروا الحرمة إلى شهر صفر، و هذه النسيئة التي ذكرها الله بقوله تعالى: " فيحلوا ما حرم الله" [التوبة:37]، و هذا القول يضعفه أن الحديث في سياق التطير، و ليس في سياق التغير.
و الأقرب أنَّ صفر يعني الشهر، و أنَّ المراد كونه مشؤوماً؛ أي : لا شؤم فيه، و هو كغيره من الأزمان يُقدَّر فيه الخير، و يُقدَّر فيه الشر)).
ثمَّ قال ـ رحمه الله ـ ((ص566ـ567)):
(( وقوله: "و لا صفر" فيه ثلاثة أقوال سبقت وبيان الراجح منها.
و الأزمنة لا دخل لهافي التأثير، و في تقدير الله ـ عزوجل ـ؛ فصفر كغيره من الأزمنة يقدَّر فيه الخير و الشر، و بعض الناس إذا انتهى من شيء في صفر أرَّخ ذلك، و قال: انتهى في صفر الخير، و هذا من باب مداواة البدعة ببدعة، و الجهل بالجهل؛ فهو ليس شهر خير، و لا شهر شر.
أما شهر رمضان، و قولنا :إنه شهر خير؛ فالمراد بالخير العبادة، و لا شك أنه شهر خير، و قولهم: رجب المعظم؛ بناءً على أنه من الأشهر الحرم.
و لهذا أنكر بعض السلف على من إذا سمع البومة تنعق قال: خيراً إن شاء الله، فلا يقال: خير و لا شر، بل هي تنعق كبقية الطيور))اهـ.
معالي الشيخ بكر أبو زيد ـ حفظه الله ـ
6ـ قال الشيخ الدكتور بكر بن عبد الله أبوزيد ـ عافاه الله ـ في كتابه ’’معجم المناهي اللفظية‘‘ (ص339ـ340):
(( و في معنى "لا صفر" أقوالٌ ثلاثة:
أنه داء في البطن يعدي؛ و لهذا فهو من باب عطف الخاص "و لا صفر" على العام "لا عدوى".
أو أنه نهي عن النَّسَأ، الذي كانت تعمله العرب في جاهليتها و ذلك حينما يريدون استباحة الأشهر الحرم فإنهم يؤخرونه إلى شهر صفر.
و الثالث: أنه شهر صفر؛ إذ كانت العرب تتشاءم به. و لهذا نعته بعضٌ بقوله: "صفر الخير" منابذةً لما كانت تعتقده العرب في جاهليتها؛ و لهذا تراه في "الملحق" فيما يأتي.
و بعضٌ يقول:" صفر الخير" تفاؤلاً يرد ما يقع في نفسه من اعتقاد التشاؤم فيه،و هذه لوثةٌ جاهليةٌ من نفس لم يصقلها التوحيد بنوره)).
ثمَّ قال ـ حفظه الله و شافاه ـ في ملحق ’’ فوائد في الألفاظ‘‘ (ص658):
(( للعرب مواسم في الشهور و الأيام في بعضها التشاؤم،وفي بعضها التيامن و التفاؤل بها منها:
شهر صفر وكان لهم فيه نوع تشاؤم، فكان يلقَّب بشهر صفر الخير؛ منابذةً للجاهلية في اعتقادها. فكان يتسمَّح في هذا الفظ لمنابذة الاعتقاد و التشاؤم.
و الإسلام محى هذه، و ثبَّت الاعتقاد و الإيمان، ومحى معالم التعلُّق بغيره ))اهـ.
لا تقل : صفر الخير
بعد هذه الجولة العلمية في رحاب أقوال أهل العلم ، والتي ازددنا منها علماً و فهماً و بصيرةً في مسألة مهمة من مسائل التوحيد، لا يخفى عليك أنَّ مسألة الطيرة و التشاؤم مسألة طويلة الذيل عظيمة النيل ليس هذا موضع بسطها ، فانظرها في شروح ’’كتاب التوحيد‘‘ حرصاً على تحقيق التوحيد و تخليصه من أن تشوبه شائبة من شوائب الشرك عياذاً بالله.
و تنبَّه أخي الصفي أنه يتعيَّن علينا اجتناب التعبير بـ:"صفر الخير" ؛ لأنَّ الباطل لا يرد باطلٍ آخر، فصفر ـ كما مرَّ معنا ـ كغيره من الشهور لا يُقال فيه صفر الشر و لا صفر الخير، و من جهة أخرى هو من الفضول في الكلام ، و من التطويل الذي لا طائل تحته، و لا هو مأثور عن السلف الصالح . و مثله أو قريب منه قولهم: "رجب الأصم"؛ لأنه لا تُسمع فيه قعقعة السلاح للقتال ، أو "رجب الفرد" ؛ لأنه شهر حرام فرد بين أشهر حلال(7).
هذا والله أعلى و أعلم، و صلى الله على نبينا محمد و على آله و صحبه و سلم، والحمد لله رب العالمين.
من’’البيان المختصر في حكم التشاؤم بصفر‘‘
فريد أبوقرة المرادي
الهوامش:
(1) ’’الفوائد المنثورة‘‘ ص28ـ29 للشيخ الدكتور عبد الرزاق العباد ـ حفظه الله ـ.
(2) راجع ـ زيادة في العلم ـ كتب التفسير عند قول الله ـ تعالى ـ : " إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا"الآية [التوبة:37].
(3) ’’سنن أبي داود‘‘ (3915).
(4) ’’صحيح الأدب المفرد‘‘ (542).
(5) [الجزء5، المجلد1،شهر صفر عام1356هـ ، ص381ـ385]، بواسطة ’’معجم المناهي اللفظية‘‘ (ص342ـ346 ط.3 )
موقع مؤسسة الدعوة الخيرية